استطلاعات الرأي العام ودورها في دعم اتخاذ القرار – د. هويدا مصطفى – افتتاحية العدد الثاني من مجلة آفاق إدارية – مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار

عرفت العقود الأخيرة تطورات وتحولات عالمية متسارعة شملت المجالات كافة؛ مما أدى إلى تعاظم أهمية البحث العلمي في مختلف الميادين، ومنها استطلاعات الرأي العام وقياس توجهاته لما يكتسبه من أهمية بالغة في مختلف القضايا والمجالات التي باتت تؤثر بشكل كبير على صياغة التحولات العالمية بمختلف توجهاتها.

أصبح مصطلح الرأي العام من أكثر المصطلحات رواجًا بين الباحثين والأكاديميين نظرًا للمركزية التي بات يشكلها في صياغة الاتجاهات العامة، والتأثير على تطور القضايا الحاسمة في البلدان، والمتعلقة بالتطورات السياسية والاقتصادية والأمنية.

تعريف قياس الرأي العام:

يعرف استطلاع الرأي على أنه دراسة علمية يتم إجراؤها بشكل منهجي، وتهدف إلى معرفة آراء المواطنين تجاه إحدى القضايا المهمة، أو أحد الأحداث المطروحة على الساحة، وتفيد نتائجها كل المهتمين من إعلاميين وباحثين ومسؤولين، وتساعدهم في عملية اتخاذ القرارات وصياغة البرامج وتحديد الأهداف، كما أنها توفر كمًا ضخمًا من المعلومات في مختلف المجالات

فقد أدرك الإنسان منذ القدم أهمية الرأي العام وتأثيراته على مختلف القضايا، وأكثر مما استخدم في العلاقة بين الحاكم والمحكومين، إذ لجأ هؤلاء إلى أساليب عدة من أجل كسب الرأي العام.

ومع تطور الاتصالات والثورة التكنولوجية وزيادة أهمية البحوث العلمية، فرضت دراسات الرأي العام واستطلاع اتجاهاته نفسها وبقوة، وأصبحت ميزة بارزة تعتمد عليها الكثير من الفعاليات في مختلف الميادين.

مراحل تطور قياس الرأي العام:

تعود أولى المحاولات لقياس الرأي العام إلى عام 1774 بالولايات المتحدة الأمريكية من قبل مؤسستي “أراز للاستطلاعات”، ومؤسسة “بن فرانكلين” لقياس الرأي العام في المستعمرات الأمريكية الثلاث عشرة، التي شكلت فيما بعد فيدرالية الولايات المتحدة الأمريكية لمعرفة مدى استجابة الجمهور الأمريكي للحرب المقترحة ضد إنجلترا، وتوالت المحاولات فيما بعد من قبل المؤسسات الإعلامية والتجارية لقياس الرأي العام.

وفي عام 1935 بدأت مرحلة جديدة من استطلاعات الرأي العام مع إنشاء معهد “جالوب” وتطبيقه الأسلوب العلمي عند قياس الرأي العام، من خلال استخدام العينات الحصصية وقدرته على استطلاع الرأي العام في عديد القضايا والنجاح في التنبؤ بها، على غرار فوز الرئيس “روزفلت” في انتخابات 1940 و1944.

ومع المشكلات والهزات السياسية التي تلت استخدام تلك الأداة في الأحداث التالية واتهام الكونجرس تلك عملية استطلاعات الرأي بالانحياز، تدخل الكونجرس وفرض مجموعة من القوانين التنظيمية للعملية؛ مما جعلها تتطور أكثر علمية وبعدًا عن هامش الخطأ العلمي.

ومع بداية العام 1965 ونجاح معهد “جالوب” في الكثير من الاستطلاعات، شاع استخدام تلك الأداة البحثية في نحو 40 دولة؛ منها ألمانيا، فرنسا، واليابان لتصل بعدها دول العالم الثالث كمصر، وإندونيسيا، والبرازيل، فيما تختلف أهمية استطلاعات الرأي من منطقة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى حسب مستوى التطور الاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، والمستوى العلمي والتكنولوجي في كل بلد.

دور وأهمية استطلاعات الرأي العام:

تقوم استطلاعات الرأي بدور مهم في توضيح اتجاهات المجتمع، والتي على أساسها يضع صانعو القرار سياساتهم؛ للاستجابة لتلك التوجهات وأخذها بعين الاعتبار. فاستطلاعات الرأي تُعدُّ همزة وصل بين صناع القرار والجمهور الذي يجري فيه استطلاع الرأي، من حيث تبادل الآراء حول مختلف القضايا التي يجري بخصوصها استطلاع الرأي، فأصبحت أداة مهمة للتعرف على مختلف القيم السائدة في المجتمعات، وتطور تلك القيم ومستقبلها.

تُمكِّن استطلاعات الرأي من تحديد السيناريوهات البديلة للتعامل مع مختلف القضايا والأزمات وتعديل السلوك بخصوصها، من خلال الوصول إلى أولويات المجتمع وتفضيلاته.

كما تعد تلك الأداة البحثية مؤشرًا مهمًا لقياس مدى نجاح مختلف السياسات بخصوص صانعي القرار، ومدى فعالية منتج معين أو برنامج معين أو شعبية حزب أو شخصية ما. فهي من أهم الأدوات التي تسهم في توثيق العلاقة بين وسائل الإعلام والجمهور وبين صانعي القرار والفئات الشعبية، وبين مختلف المؤسسات. نظرًا لأنها تمكن من معرفة احتياجات ورغبات المجتمع، ومن ثَمَّ يمكن وضع الأسس والمبادئ التي يجب الالتزام بها في التعامل مع قضايا الصالح العام.

إن معرفة اتجاهات الرأي العام تساعد على حصر الأهداف والمقاصد والغايات التي يجب أن تنشدها البرامج والخطط الموجهة إلى تلك الشرائح، ومنه يمكن الحصول على المؤشرات اللازمة لمعرفة مدى النجاح في تحقيق أهداف تلك البرامج والخطط.

أصبح استطلاع الرأي أحد أهم المؤشرات التي تمكن من تحديد درجة تطور المجتمعات ويستخدمه صانعو القرار في مختلف الدول لزيادة شعبيتهم لدى الرأي العام. كما يتم استخدامها في الدعاية الانتخابية.

وبالنظر إلى الانتشار الواسع الذي عرفته تلك الآلية البحثية، والاهتمام الذي لاقته من قبل الباحثين وصناع القرار بتزايد الاعتماد عليها، ظهرت العديد من المواقف التقييمية والنقدية لتلك الأداة؛ حيث ساد الاعتقاد لدى الكثير من الباحثين أن استطلاعات الرأي تجري بشكل ناجح في الدول المتقدمة أكثر من الدول النامية, نظرًا لكثرة المعطيات، ومنها درجة الوعي، وثقافة المجتمع، وتوافر الإمكانات والقدرات المادية، وتطور وسائل وأدوات الاستطلاع، فضلًا عن النظام الديمقراطي الذي يتيح الفرصة لحرية الرأي والتعبير دون أية ضغوط؛ مما يؤهل تلك الاستطلاعات لتتمتع بكثير من الجدية والمصداقية عكس نظيرتها في بلدان العالم الثالث.

بينما يرى اتجاه آخر أن هناك مجموعة من المعايير والأدوات المنهجية والخطوات العلمية متى تم احترامها، كان النجاح نصيب تلك الاستطلاعات بغض النظر عن المكان الذي تجري فيه، ويمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات في المواقف بخصوص أهمية استطلاعات الرأي والاعتماد عليها، كالتالي:

الاتجاه الأول: يعظم هذا الاتجاه ويبالغ في التأكيد على أهميتها ودورها في القضايا المهمة خصوصًا التطور الديمقراطي، ويطالب بضرورة إبعاد تدخل السلطة في سيرها ورفع جميع القيود عن إجرائها.

الاتجاه الثاني: ويمثله الساسة المشتغلون بالمناصب التشريعية والإدارية، والصحفيون؛ حيث ينصبون العداء للاستطلاعات ولا يرون مبررًا لإجرائها ويقللون من شأنها وأهميتها.

الاتجاه الثالث: وهو اتجاه وسيط يحاول التوفيق بين الاثنين، من خلال تأكيده أهمية ودور استطلاعات الرأي، ولكن أيضًا مع تأكيده على دورها السلبي، ومن ثَمَّ يقترحون وضع مواثيق أخلاقية لإجراء تلك العملية ومراقبتها لتجنب التلاعب بنتائجها وتوجيهها وتفسيرها على نحو يضر بالواقع الفعلي للقضية محل الاستطلاع.

طرق قياس الرأي العام:

تتعدد وسائل وطرق قياس الرأي العام؛ منها غير المباشر، كاستطلاع الرأي بالهاتف، واستطلاع الرأي بالنماذج المكتوبة، واستطلاع الرأي الإلكتروني وعبر الإنترنت، هذا الأسلوب من مزاياه أنه يصل إلى شرائح واسعة من المستطلعين في أي بقعة من العالم، بسرعة كبيرة في أي وقت، وبأقل تكلفة، ويمكن إعادة الاستطلاع بشكل دوري، واستطلاع الرأي المباشر

ويمكن لهذه الأساليب أن تشكل وحدة متكاملة، تسهم في تأمين استطلاع آراء ناجحة ومثمرة.

وتتعدد طرق قياس الرأي العام: منها طريقة الاستقصاء (الاستبيان-الاستطلاع المباشر): وهي أكثر الطرق انتشارًا واستخدامًا في العديد من المجالات، وطريقة المسح (الملاحظة والمقابلة): تتضمن طريقة المسح طريقتين داخلها، وهما، الملاحظة، والمقابلة

ومن أبرز سمات هذه الطريقة، أنها تمكن من الوصول إلى إجابات يقاوم الأفراد في تقديمها بطرق أخرى، ومن ثم فإن نتائج تلك الطريقة وفعاليتها تتوقف على مدى قدرة الملاحظ على الملاحظة العلمية وليس الملاحظة العادية، إذ يتطلب منه الأمر قدرة على الوصف والتحليل والتفسير والتنبؤ.

أما المقابلة فتقوم على علاقة شفوية بين الباحث الميداني والحالة موضوع الدراسة، وقوام تلك الطريقة هو التفاعل بين الباحث الميداني والمبحوث الذي يمكنه أن يستخدم أيضًا طريقة الملاحظة ليرصد مختلف الإشارات والانفعالات، وردود الفعل الصادرة عن المبحوث عن كثب ودقة متناهية، يمكن توجيهها والتحكم فيها.

وإذا كان المبحوث في تلك الطريقة يمكنه استيضاح أي غموض في الأسئلة، فإن الباحث يمكنه من خلال تلك الطريقة معرفة مدى جدية المبحوث في إجاباته وصدقه بخصوص المعلومات المقدمة.

وأخيرًا، ففي ظل التطورات التي يشهدها العالم، والتحولات السريعة التي طرأت على بنية المجتمعات وثقافاتها، ازدادت الحاجة إلى المزيد من البحوث والدراسات، وبدورها احتاجت تلك الدراسات إلى طرق وأساليب وأدوات عميقة ودقيقة لتفسير ومتابعة كل صغيرة وكبيرة، وتتبع آثار تطورها واقتفاء أثريات تكونها وتبلورها، وفي هذا الإطار تُعدُّ التغطية الإخبارية واستطلاعات الرأي من أبرز الموضوعات التي باتت تفرض وجودها على الباحثين والدارسين وصانعي القرار؛ لفهم ما يجري من أحداث وتطورات، وعدم الاكتفاء بمتابعة تحليل وتفسير القضايا والظواهر، بل الانتقال إلى مراحل استباقية من خلال الاهتمام بتوجهات الرأي العام ومحاولة استطلاع رأيه وتوجهاته حتى يتسنى فهم طبيعة القيم السائدة، وتوجهاتها وأولويات الاهتمام.

وكل هذا من أجل صياغة عقلانية وواقعية للمقاصد والأهداف المتعلقة بالخطوط العريضة للسياسات والبرامج ومختلف الاستراتيجيات، في ظل وضع عالمي يتسم بالكثير من التعقيد والغموض، يتطلب الاقتراب أكثر من الظواهر لفهم جوهر تبلوره ولكن أيضًا تسارع وتيرة التطورات ومستجداتها المفاجئة في أحيان كثيرة يتطلب العمل قدر المستطاع على استشراف التوجهات واستطلاع آراء الاتجاه العام المكون لتلك الاتجاهات.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *