استطلاعات الرأي بين العلم والسياسة – فريد العليبي – موقع الحوار المتمدن

استطلاعات قيس الرأي العام أو عمليات سبر الآراء حديثة نسبيا في عالمنا، وتعود ‏في أمريكا الى القرن الثامن عشر، بينما لم تعرفها فرنسا مثلا إلا في النصف الأول من ‏القرن العشرين، وتتمثل في طرح أسئلة علي مجموعة من الناس، ثم ‏قراءة الأجوبة ‏وتصنيفها واستنتاج ما يلزم عنها، وهى تقوم على اختيار عينات ممثلة لمجموعة سكانية ‏ما، معتمدة حساب الاحتمالات في نشر نتائجها، ويتم توجيه تلك الأسئلة مباشرة الى ‏الناس في الشارع أو باستعمال الأرقام الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال، وهي ‏تستند الى خلفية معرفية قوامها خضوع البشر في أفعالهم وردود أفعالهم واختياراتهم الخ ‏‏.. الى قوانين موضوعية، يمكن على أساسها التنبؤ بما سيقومون به في المستقبل، ‏فرغم أن الانسان كائن الارادة والحرية إلا أن هناك عوامل موضوعية تتحكم به، بل إن ‏الحرية نفسها ليست إلا إدراكا للضرورة التي يعيش الانسان في كنفها. وتستفيد من تلك ‏الاستطلاعات حكومات ومؤسسات بل إنها اعتمدت حتى من طرف البوليس السياسي ‏في عدد من البلدان لمقاومة الحركات الثورية الصاعدة.‏
‏ ‏‎ ‎‏ وفي مجال السياسة يستند إليها في تحديد نتائج الانتخابات قبل حصولها، وقد ثبت ‏صدقها حينا وخطؤها أحيانا أخرى، ويطرح المشككون في نزاهتها أسئلة حول من كان ‏وراء طلب إجرائها، ومن مولها، لافتين النظر الى أنها عادة ما لا تذكر العينة ‏المعتمدة ومدى تمثيليتها، ولا تشير إلى هامش خطأ استنتاجاتها، وأن أسئلتها تفترض ‏أجوبة بعينها، مما يعنى أنها توحي بها . ومن ثمة التأثير على المستجوبين والتلاعب ‏بالنتائج المصرح بها، وأنها تعمل لصالح قوى سياسية محددة، بينما تعادي غيرها، ‏وهي لا تعدو أن تكون حملات إشهارية في الاقتصاد لصالح شركات تجارية، أما في ‏السياسة فإنها حملات انتخابية مخفية تسبق الحملات الحقيقية، وأحيانا تترافق معها، ‏فهي لا تكشف عن الرأي العام بقدر ما تعمل على تكوينه، وهناك من شكك أصلا في ‏موضوعها مثل عالم الاجتماع بيار بورديو، الذي يرى أن الرأي العام لا وجود أصلا ‏له فما بالك بقياسه. ولكنها حافظت رغم ذلك على قيمتها باعتبارها آلية قادرة نسبيا على ‏تحديد اتجاهات الرأي العام، ومن هنا أهميتها في فهم الواقع الاجتماعي السياسي من ‏جهة مساعدتها على تغيير استراتيجيات وتكتيكات قوى مالية وسياسية وعسكرية وثقافية ‏وغيرها، بما يضفي النجاعة على نشاطها.‏
وقد حطت استطلاعات الرأي رحالها في تونس بشكل خاص بعد ‏رحيل بن على ‏‏، ‏عندما ظهرت مجموعة من المؤسسات المعنية بتلك المهمة، وسرعان ما أصبح لها ‏‏حضورها في المشهدين السياسي والإعلامي، غير أنها لم تبلغ بعد مرحلة النضج ‏والحرفية والتخصص بما يمكنها من أن ‏تكون ذات مصداقية، حيث يتسم عملها حتى ‏الآن بالعشوائية وبما يسميه بعضهم ” ‏الانتصاب الفوضوي “، فهي لا تخضع الى ‏معايير ومناهج مضبوطة من الناحيتين ‏القانونية والعلمية، وبالمقارنة بينها يلاحظ أن ‏نتائجها متناقضة، وهناك أدلة كثيرة على ‏خطئها في تقدير نتائج الانتخابية السابقة، ‏ولكنها اقتربت أحيانا أخرى من الحقيقة، والرائج ‏تونسيا هو اتهامها بالتحيل والغش،‏‎ ‎‎ومن ثمة ضعف الثقة فيها و النظر اليها باعتبارها ‏وسيلة انتخابيه . ويفسر ذلك بأنها ‏حديثة العهد وافتقار أصحابها الى الخبرة اللازمة، هذا من ‏جهة، ومن جهة ثانية ‏تحيط بها جملة من العوائق لعل أهمها محاولات استثمارها ‏من قبل قوي سياسية ومالية ‏مؤثرة، داخلية وخارجية وصعوبة التعامل مع ” رأي ‏عام ” لا يزال يخفي آراءه ‏السياسية في أحيان كثيرة، ومن هنا الحذر من ‏اعتمادها لفهم تطور المشهد السياسي ‏التونسي .‏
‏ وقد ثارت زوبعة مؤخرا حول بعضها، عندما نشرت نتائجها في علاقة بالانتخابات ‏‏القادمة، التي تضمنت انحدار نوايا التصويت لصالح بعض الأحزاب التي سرعان ما ‏‏عبرت عن سخطها، متهمة إياها بالتوظيف السياسي، ومنها حركة النهضة الاسلامية ‏التي ‏سكتت عندما كانت استطلاعات الرأي تفيد صعودها، ولما أشارت الى انحدارها ‏‏تكلمت .‏‏ ‏وليست هي الوحيدة في ذلك، فقد عبر رئيس الدولة أيضا عن امتعاضه منها ‏وشاركه ‏ذلك الشعور حزب تحيا تونس، والسبب هو ذاته، ونعنى انحدارا في نوايا ‏التصويت ‏.‏
‏ والملاحظ أن المعركة حول تلك الاستطلاعات لا تتجه ناحية طرح المعضلة الحقيقية ‏‏ونعني القانونية والعلمية، بقدر دورانها حول السياسة، فالقوى المتصارعة انتخابيا ‏تريد ‏مؤسسات سبر آراء على مقاسها، تكون خادمة لأغراضها، ولا يهمها العلم ولا ‏القانون ‏بما يمكن أن يؤدي الى انشاء هذا الحزب أو ذاك مؤسسة استطلاعية ملحقة ‏به، هذا إن ‏لم يكن ذلك قد أصبح واقعا في تونس اليوم، والحل هو ترك الأمر لذوى ‏الاختصاص ‏والكفاءة والاحتراف والنزاهة والموضوعية والحياد في مجال العلم، فضلا ‏عن ضبط ‏المبادئ الناظمة لعملها ومراقبة تمويلها في مجال القانون.

الكاتب: فريد العليبي

تاريخ النشر: 11 مايو 2019م

الرابط الأصلي للمقال: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=636906

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *