العوامل المؤثرة على استطلاعات الرأي العام ونتائجها – بقلم أ. هشام محمد كامل

من المستحيل أن تجد استطلاعًا للرأي بنسبة 100% من الصحة، ولكن لا يعود ذلك لعدم رغبة القائمين على الاستطلاع، وإنما لاستحالته من الناحية العملية. فلكل مرحلة من مراحل الاستطلاع تحدياتها التي إن لم تُتجاوز فستتأثر مصداقية الاستطلاع بالسلب، بدءًا من تحديد العينة نفسها حجمًا وأفرادًا، وانتهاءً بمن يجيب على الأسئلة. فكيف من الممكن أن تتأثر مصداقية استطلاعات الرأي على مر تلك المراحل؟

تحديد العينة وأفرادها:

فيما يخص الخطوة الأولى، وهي تحديد حجم عينة الاستطلاع، فلابد من شرح سبب اللجوء لعينة من الأساس بمثال صغير، فإذا افترضنا أنه قد طُلب من وزارة الصحة والسكان إحصاء عدد المدخنين بمصر، فهل سيكون من المنطقي سؤال كل مواطن من الـ 90 مليون؟ بالقطع لا، فذلك أمر مستحيل، ناهيك عن أنه إهدار للموارد والوقت، فلذلك يلجأ المستطلعون إلى تحديد عينة من المجتمع المُراد استطلاعه، وكي تكون تلك العينة ممثلة بحق للمجتمع، فلابد من حسابها بعدة معادلات[1] تعتمد على نسبة الدقة التي يحتاجها الاستطلاع (والتي تدور حول 95% عادةً).

هل ينتهي الأمر من بعد تحديد حجم العينة المطلوبة؟

كلا، حيث تبدأ مرحلة جمع أفراد تلك العينة، وذلك عبر عدة طرق، أولاها العينة العشوائية البسيطة، والتي تصلح في المناطق المتجانسة سكانيًا، فإذا كان الاستطلاع شاملًا لمحافظة واحدة على سبيل المثال، فيمكن حينها اختيار الأفراد عشوائيًا، شريطة أن يكون كل أفراد المنطقة متساويين في احتمالية اختيارهم. تتميز تلك الطريقة بسهولتها، ولكن تُعاب حين يكون الاستطلاع على مستوى أكبر وأكثر تنوعًا من المناطق، فبالتالي من المُحتَمَل ألا تكون متجانسة فيما بينها، مما قد يجعلها غير ممثلة لجميع فئات المجتمع، أضف أيضًا احتمالية تواجد بعض الأفراد المختارين للعينة في مناطق نائية.

وهناك طرق أخرى مثل العينة العشوائية البسيطة، مثل تقسيم المجتمع المراد استطلاعه (مجتمع من 1000 فرد على سبيل المثال) إلى مجموعات متساوية في عدد أفرادها (تقسيم الألف فرد على 100 مجموعة، 1000 ÷ 100 = 10 أفراد في كل مجموعة) وترقيم تلك المجموعات، ثم الاختيار من بين تلك المجموعات عشوائيًا (البدء بالمجموعة التاسعة، ثم اختيار كل مجموعة تليها بعشر مجموعات، 9-19-29-39…). تتميز تلك الطريقة بقلة تكاليفها خصوصًا في المجتمعات الكبيرة، ولكن يعيبها احتمالية انحياز الباحث، فإذا طولب الباحث على سبيل المثال باستطلاع المناطق 19-29-39، فمن الممكن حينها أن يقرر عدم استطلاع عدة أفراد في تلك المناطق لانحيازيات طبقية أو سياسية.

وهناك أيضًا العينة الطبقية العشوائية، أي أنه من بعد تحديد حجم العينة المطلوبة، تُقسم العينة إلى طبقات (محافظات على سبيل المثال)، وتنال كل طبقة نسبة مئوية متوافقة مع نسبة مواطني كل محافظة من إجمالي عدد مواطني الدولة، فإذا كان البحث يُجرى على 28 محافظة، فلكل منها نسبة معينة من إجمالي عدد المواطنين بمصر، فتأخذ كل محافظة نسبتها المُستَحَقَة من حجم العينة المُحَدَدَة مسبقًا، وبذلك تُمثل كل المحافظات بأدق صورة ممكنة. تتميز تلك الطريقة بدقة تمثيلها للمجتمع وتقليل التباين فيما بين أفراد العينة، ولكن لابد من الوضع في الاعتبار حجم الطبقة في المجتمع ومستوى التجانس فيما بينها.

دور الباحث:

هذا من حيث تحديد حجم العينة وكيفية اختيار أفرادها، ولكن لم ينتهِ الأمر! فسينزل الباحثون إلى الميدان لاستقصاء آراء العينة المُحَدَدة، وهنا تكمن عدة إشكاليات قد تؤثر على دقة البحث، وبالتالي مصداقيته، ومن تلك العوامل ما يخص الباحث، وما يخص المُستَطلَع رأيُه.

أما الباحث، فمن الممكن أن يقع في خطأين:

الأول في كيفية صياغة استمارة جمع البيانات، والتي قد توجه رأي أفراد العينة؛ فسؤال مثل: «التدخين ضار، أليس كذلك؟»، قد افترض مسبقًا أن المشارك يتفق مع السائل على أن التدخين ضار، أو «كم عدد السجائر التي تدخنها باليوم؟» والذي افترض أيضًا أن المشارك مدخن، أو وجود انتخابات رئاسية بها 5 مرشحين، وقِصَر الاستطلاع على 2 منهم، ما يؤدي بالنهاية لعدم التعبير الحقيقي عن آراء المشاركين. وتُحل تلك المعضلة عبر إعادة صياغة الأسئلة بشكل محايد تمامًا، فبديل السؤال الأول يكون «هل ترى التدخين ضارًا أم لا؟»، والثاني من الممكن أن يأتي بعد سؤال «هل أنت مدخن؟ إذا أجبت بلا يُرجى الانتقال للسؤال (…)، وإذا أجبت بنعم فيُرجي الانتقال للسؤال (…)»، أما الثالث، فلابد أن يُستقصى رأي الجمهور حول كافة المُرشَحين (إلا لو كانت المرحلة الثانية من الانتخابات والتي يتنافس فيها عادةً متنافسان فحسب). قد تكون إجابات السؤال غير معبرة عن موقف الفرد بدقة، مثل «قيِّم موقفك تجاه أداء وزير التنمية المحلية»، وتكون الاختيارات فيما بين «راضي، غير راضي»، مع أنه من الأدق وضع خمسة اختيارات: «سيء جدًا، سيء، محايد، جيد، جيد جدًا».

تجدر الإشارة إلى ضرورة حسن تبويب الأسئلة لحسن تبويب إجاباتها، مع الحفاظ على بساطتها اللغوية والتسلسل المنطقي لها، والموازنة فيما بين أبعاد القضية بحيث لا تركز على جانب على حساب جوانب أخرى.

أما الخطأ الثاني فيكمن في الانحياز لفئة على أخرى داخل العينة، فإذا أجرى الباحث على سبيل المثال بحثًا بعنوان «مدى تأييد سائقي السيارات بالقاهرة للسياسة المرورية الأخيرة بتاريخ (…)»، واقتصرت عينة الاستطلاع على من يملكون سيارات ملاكي، ففي ذلك انحياز طبقي واضح لفئة على حساب بقية فئات السائقين (سيارات الأجرة والنقل العام والشاحنات…)، ما ينتج عنه طعن مصداقية الاستطلاع. وقد يظهر ذلك الانحياز في مثال أخر، وهو الاعتماد على قائمة أرقام الهواتف المحمولة، وفي ذلك انحياز لعدم شمول العينة لمن لا يمتلكون هاتفًا محمولًا. وفي مثال واقعي، في أول تجربة لاستطلاع الرأي العام العربي لقياس مدى ترحيبه بالوحدة العربية، اقتصر الاستطلاع على عشر دول عربية، واستُبعدت سبع دول أخرى (منها دول مؤثرة كالجزائر وسوريا) نظرًا لظروفها السياسية، ما يُعد تحيزًا واضحًا وإن كان غير مقصود، وضرب لمصداقية الاستطلاع في مقتل.

دور المجيب على الاستطلاع:

ولكن، حتى إن تجنب الباحث تلك العوامل، وامتاز بالحيادية واعتمد على عينة معبرة عن الجمهور، تظل هناك عوامل أخرى يحاول الباحث التحكم فيها، ولكنها بيد المُستَطلَع رأيه بشكل أساسي، منها تزييف المشاركين بالاستطلاع لآرائهم الحقيقية، إما لرغبته في خروج نتيجة معينة، وإما لقناعته بموقف فكري أو سياسي معين مختلف عن أغلبية المجتمع مما سيعرضه للشعور بالغربة والاختلاف؛ كقناعاته الدينية، أو موقفه من نظام الحكم الحالي، أو لكثرة أسئلة الاستطلاع ورغبته في الانتهاء منها، ويمكن حل تلك المشاكل عبر صياغة الأسئلة بشكل يتيح سرعة الإجابة لتوفير الراحة النفسية للمشارك، مع توفير أكبر قدر ممكن من السرية في الاستطلاع، عبر حفظ هويات المشاركين، وعدم مواجهتهم وجهًا لوجه أثناء إجابتهم للأسئلة أو تدريب القائمين بالمقابلة على الحياد التام.

استعراض كافة الآراء:

أما من ضمن العوامل التي يمكن أن تؤثر على الاستطلاع بشكل عام فهو افتراض أن لكل فرد في العينة المُستَهدَفة رأي، مع أنه من الممكن ألا تملك نسبة كبيرة منهم موقفًا محددًا تجاه القضية المطروحة، فعلى سبيل المثال، إذا سُؤل المصريون عما إذا كانوا يؤيدون أو يعارضون ضرب الأطفال بهدف تربوي، فجاءت النتائج المؤيدة 40%، والمعارضة 35%، والمحايدة 25%، حينئذ يمكن القول بأن المؤيدين هم الأغلبية، ولكن إذا جمعنا المحايدين مع المعارضين (60%)، فسيتبين لنا أن المؤيدين أقلية. وجدير بالذكر أيضًا أن نسبة المجيبين قد تختلف وفقًا للطبقة الاجتماعية، فمن يُعتبرون من الطبقة العليا والوسطى ستدلي بإجابات غير الطبقة المنخفضة اقتصاديا. وربما يرفض الناس الإجابة عن استطلاعات الرأي لعدم اقتناعهم بها من الأساس، ففي مثال واقعي ذُكر بدراسة لمركز PEW الأمريكي في عام 2012، تبين أن 9% فقط من الأمريكيين يشاركون باستطلاعات الرأي، ما يشكل خللًا كبيرًا في مصداقية تلك الاستطلاعات.

لذلك، فلتحقيق أكبر قدر من الشفافية، لابد أن يخرج الاستطلاع معبرًا عن كافة أطياف المجتمع بأوسع شكل ممكن باستعراض كافة الآراء تجاه القضية المطروحة، وتبيان عدد المشاركين بالاستطلاع ومن أين ينحدرون وكيف اختيروا، وهوية القائمين على الاستطلاع وتمويلهم، وغيرها من المعلومات الضرورية لتقييم موضوعية الاستطلاع من عدمه.

مسألة الدول النامية:

وإذا كانت العوامل السابقة تتصل باستطلاعات الرأي بشكل عام، إلا أن هناك تحديات خاصة تواجه مراكز استطلاعات الرأي العام في الدول النامية، حيث يرى مجموعة من الباحثين أن الرأي العام في تلك البلاد سطحي لا فعالية له، كما أن فرص وجوده تجاه القضايا الحيوية والهامة ضئيلة للغاية، ويعود ذلك بشكل رئيسي للظروف الاقتصادية والسياسية، وكثرة المشكلات المنهجية التي تواجه قياس الرأي العام؛ كالتشكيك في أهميتها من الأساس وصعوبة التأكد من مصداقية الأبحاث لعدم وجود محكمات وتقييمات مستقلة، وندرة الباحثين المؤهلين للقيام بتلك الاستطلاعات، وكذلك نقص الموارد الكافية لإجراء استطلاعات رأي دقيقة، كما تتواجد عدد من المشاكل الأخرى، كنقص توافر المعلومات للأفراد داخل المجتمع ما يعيق عملية اتخاذ القرار لدى الأفراد، وصعوبة الوصول لكافة أفراد العينة المستهدفة.

ولكن على الجانب الأخر نجد تعقيبًا على ذلك الرأي يقول باعتماد هؤلاء الباحثين بشكل رئيسي على أطر ونماذج استطلاعات الرأي الغربية والتي لا تتماشى بشكل كامل مع أوضاع الدول النامية، مما يعني ضرورة تبني وتطوير منظور يعتمد على النسبية الثقافية، مع تطوير مفهوم الرأي العام وعوامل تكوينه بشكل أدق وأشمل. حتى أنه في ندوة «قياس الرأي العام في مصر» عام 1981، لفت عدد من المشاركين إلى وجود رأي عام في الدول النامية، وإلا فكيف تُفسَر الثورات والاحتجاجات الشعبية؟ ولفت رأي أخر إلى ضرورة وضع عامل حرية الرأي والتعبير في الاعتبار كي تخرج استطلاعات الرأي بأدق صورة ممكنة.

خاتمة:

في نهاية الأمر، يمكن القول بأن مجال استطلاعات ومسوح الرأي العام مثل غيره من المجالات الإنسانية، فرغم سعيه الدؤوب نحو الاقتراب لأسمى درجة ممكنة من الدقة، إلا أن العديد من العوامل التي تقف عقبةً تجاه موضوعية تلك الاستطلاعات. ولكن تلك الانتقادات لا تعني انتفاء أهمية تلك الأدوات، خاصةً مع الوضع في الاعتبار زيادة نضجها على مدار الأعوام نتيجة لتراكم الخبرات والدراسات وربطها المكاسب الاقتصادية والسياسية المعتمدة بشكل أساسي على سمعتها ودقتها. لذلك فلا سبيل إلا تشجيع ذلك المجال، ومن الضروري أيضًا ربط تلك الاستطلاعات بحياة الجمهور اليومية، وتعريفهم بأهميتها لصناع القرار في الدولة، وذلك حتى يتشجعون للتعبير عن آرائهم بحرية وصدق.

مصادر البحث:

  • د. محمد شومان (1999). إشكاليات قياس الرأي العام، مصر نموذجًا. القاهرة، دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع.
  • أ. د. عاطف عدلي العبد (2002). تصميم وتنفيذ استطلاعات وبحوث الرأي العام والإعلام. القاهرة، دار الفكر العربي.
  • أ. د. عاطف عدلي العبد (2005). الرأي العام وطرق قياسه: الأسس النظرية، الجوانب المنهجية، النماذج التطبيقية والتدريبات العملية. القاهرة، دار الفكر العربي.
  • عبد الرحمن، ع. (1981). الرأي العام العربي: هل يمكن استطلاعه وقياسه. الفكر العربي (معهد الإنماء العربي) – لبنان، مج 3، ع 23، 17 – 30. مسترجع من https://search.mandumah.com/Record/423159
  • Gewurz, D. (2012). Assessing the Representativeness of Public Opinion Surveys. Retrieved September 12, 2016, from http://www.people-press.org/2012/05/15/assessing-the-representativeness-of-public-opinion-surveys/
  • By Sheldon R. Gawiser, Ph.D. and G. Evans Witt. (n.d.). 20 Questions A Journalist Should Ask About Poll Results. Retrieved September 15, 2016, from http://www.ncpp.org/?q=node/4

[1] من الجدير بالذكر أن تلك المعادلات صارت تؤدى بمنتهى السهولة عبر عدد من المواقع المختصة بتلك الوظيفة، فما على الباحث إلا أن يكتب «Sample Size Calculator» على محرك البحث جوجل، فتظهر له العديد من المواقع التي سيختار إحداها، ويسجل البيانات المطلوبة.

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *