أين نقف من قياس الرأي العام..؟ – ثريا الشهري – موقع الشرق الأوسط

استطلاعات الرأي العام، اتجاهات ومؤشرات إن ارتبطت بالدول الغربية قدرنا لها مصداقيتها والتزامها بالشفافية، وإن تعلقت بمجتمعاتنا العربية تندرنا على نتائجها لافتراضنا المسبق عدم التزام القائمين عليها بالقواعد المهنية لقياس الرأي، الأمر الذي من شأنه أن يقلل أو ينفي عن نتائجها صفات كالموضوعية والنزاهة. فأين تقف حدود هذه الصورة المتشابكة حول موضوع الرأي العام الجماهيري؟
في كلمات مختصرة يمكن التأكيد على حقيقة عدم وجود ما يُعرف بالرأي الحر المجرد، وإنما هي المصالح وقياس قدرة القوى المسيطرة على المجتمع في التأثير من خلال فرض مقولة «اتجاه الرأي العام» وإن كانت المسائل دائماً نسبية، فعلى سبيل التجاوزات جاء في مجلة «الإيكونوميست» أن المعهد الفرنسي للرأي العام قد زيف عمداً نتائج استطلاعات رأي الشعب الفرنسي في موضوع المهاجرين المقيمين في فرنسا، لتكون نسبة من يؤيدون خروجهم من البلاد 57% بدلاً من 77%، لاعتبارات سياسية وأمنية خاصة باستقرار الدولة، التي لا يهمنا من أمرها سوى الإشارة إلى إشكاليات دقة نتائج قياس الرأي العام التي من الواضح أنها لا تُقتصر على محيطنا العربي وحده، فهذا معهد جورج غالوب للخدمات الاستطلاعية الذي ارتبط اسمه بالتوجه الرئاسي الأمريكي يأتي عام 1970 ليحدد 5% فقط من مجموع أسئلته عن السياسة الأمريكية في فيتنام، وسؤالين يتيمين من أصل 162 غيرها للعلاقات العنصرية، متجاهلاً الاتجاه السائد حينها والرافض لحرب فيتنام والتمييز العنصري، مغلباًً منطق السياسة على تلك الصفة العلمية المفترضة في هذا النوع المتخصص من المؤسسات.
هذا، وبالرغم من وجود فريق غير متحمس من الإعلاميين والسياسيين والباحثين في العلوم الاجتماعية حول تقديرات استطلاعات الرأي العام أو مدى أهميتها، إلا أنه اتجاه يقابله تأييد كبير واتفاق على ضرورة هذا النوع من الاستطلاع لكشف الحقائق، والرفع من مستوى الوعي العام عند تعريف الناس بالقضايا التي هي موضع الطرح والتساؤل، متجاوزاً في رأيه بعض السلبيات التي قد تأتي معها سهولة دخول غير المؤهلين، أو أولئك الناشطين الذين يملكون «أجندة» متطرفة في آرائهم لخلق نوع من السيطرة الاجتماعية عن طريق إيحاءاتهم باقتناع الأغلبية بما يحملون من أفكار، الأمر الذي قد يحول دون ظهور أصوات المعارضة.
وهنا تؤكد باحثة الاجتماع الألمانية إليزابيث نيومان أن إدراك الأفراد تأييد المجتمع لاتجاهاتهم يجعلهم يتحدثون بشكل مستمر عن آرائهم وقناعاتهم، بشكل قد يؤثر في من يخالفونهم الرأي ممن يؤثرون الصمت على الحديث، فينتج عنه أن تتسع مساحة المتحدثين، وينكمش نشاط الأقلية الصامتة، وهو استنتاج إن صح تفسيره قد يساعد البعض في استغلاله للتشويش على باقي أفراد المجتمع، فحين يتمتع من ينبري للحديث عن قضية ما بمهارات لغوية معينة، وباستيعاب كبير للفروق البشرية الاجتماعية والاقتصادية بخلفياتهم الثقافية، فإنه يستطيع إن ضمن لحملته التمويل المادي اللازم، أن يوظف إمكاناته البشرية والمعرفية في التأثير المباشر مبتدئاً بجماعات الأصدقاء والزملاء… وهكذا حتى تكبر الدائرة وتنتشر التبعية ويبدو الأمر وكأنه الرأي العام لمجتمع الدولة بحاله، فخوف الأفراد من العزلة الاجتماعية، أو وصفهم بالجهل بقضايا الساعة قد يضطرهم في كثير من الأحيان إلى مسايرة رأي الجماعة، وهو مبرر من طبعه أن يخلق صعوبة واضحة في تقدير درجة الاقتناع الحقيقي بالنسبة لاتجاهات الأفراد نحو القضايا المثارة.
وبالرغم من وجود تلك الانتقادات إلا أن الواقع أثبت أن المعمول به في دول الغرب عند استشرافها لمستقبل الدول في خططها السياسية والاقتصادية إنما يرتكز وقت إعداد التقارير على نتائج الاستفتاءات والاستطلاعات والإحصاءات الرقمية والإعلامية، فتراهم يدرسون أوضاعنا ويطرحون بدائل التغيير في أنظمتنا، ويعدون «سيناريوهات» التعديلات في حياتنا، وقد يوظفون شركات محلية أو حتى معاهد خاصة سواء بطرق واضحة أو خفية لاستطلاع الرأي العام في بلادنا، ثم يعقدون الندوات والمؤتمرات للحديث عن نتائجها، وإن حدث وفاجأونا بمعلوماتهم أو غلّبوا مصلحتهم على مصالحنا بادرنا إلى تكذيبها واعتبرناها عملية تآمرية ضدنا، من دون أن نعترف بأن من لا يملك في علم التخطيط السياسي مؤسسات تستكشف وتضع الخطط البعيدة عن الخيال وأنظمة تبيح البحث والتعبير عن الرأي من دون خوف، فلن ترتفع بوعي شعوبها السياسي، وسيظل خطر غسل الأدمغة قائماً، ثم وعلى افتراض وجود ان في الأمر نسبة من مؤامرة تحاك في «الكواليس»، فهل تنجح مع حفظ النص جيداً وأخذ الاحتياطات عند الخروج عن الورق المكتوب؟! إن اهتمام القوى الكبرى بمعرفة توجهاتنا واقع معروف لم يعد يثير الدهشة، ولكن عدم حرص أوطاننا ومؤسساتنا على استطلاع آراء مواطنيها، ثم التغافل عمن يعمل في الظلام لتأليب الرأي العام ضد الشرعية والأنظمة القائمة لهي سياسة آن الأوان لتغييرها الجذري.
إن افتقار الدول العربية إلى قاعدة وافية من البيانات عن الرأي العام التي ينبغي أن تعتمد على نتائج استطلاعات ومسوح اجتماعية عبر فترات زمنية متصلة لاختبار صحة فرضياتها، كما أن طغيان التوظيف السياسي والإعلامي التابع للدولة، والذي عادة ما يؤثر في اختيار موضوعات قياس الرأي وتقييدها بالقضايا غير الصدامية، لا يفرض مصداقية هذه الدول ولا الثقة في نتائج استطلاعاتها، فلا يُعتد بها عند رسم السياسات، وتأتي القرارات على إثرها بعيدة عن رغبات الشعوب ومعاناتها.
ونتيجة لهذه الخبرات غير المشجعة يفقد الأفراد إحساسهم بأهمية الإدلاء بآرائهم ولسان حالهم يقول: «ومن ينتظر ما سنقول؟! وماذا سنضيف أو نغيّر؟!» وهو شعور بالإحباط قد يحيل المواطن إلى اللجوء إلى وسائل الإعلام الأجنبية في متابعة الأخبار واستقاء المعلومات، إضافة للعزوف عن الالتحام حول قيادته التي لم تشعره في مواقف معينة بقيمته، والحق حين تصل نتائج الانتخابات إلى ما نسبته 99.955% فمن سيقول بعدم تحيزها وخلوها من الضغوط والتزييف؟! ولا أدري كيف يكون مطلوباً من المرء أن يصدق عقله وأغلب ما يجري أمامه يقرر عنه سلفاً بألاّ يصدق!
في ضوء ما سبق أرى أنه من الضروري أن تلتقي اتجاهات النخب الرسمية الحاكمة مع اتجاهات الرأي العام لشعوبها فهي وحدها المثبتة لاستقرار المجتمع ونظام الحكم نفسه، أمّا تعويد المواطنين على المشاركة بآرائهم في مختلف القضايا المطروحة، ولا سيما المصيرية منها، فهو أمر لا بد أن يعي المعنيون أهميته لكونه يصب في مصلحتهم، والذي يفضل أن يتم من خلال مراكز بحثية وعلمية وطنية متخصصة وذات مصداقية، مما بدوره سيضمن لعملية القياس ابتعادها الكلي عن احتكار الجهات التمويلية غير واضحة المصادر، والتي غالباً ما تحدد اختيار موضوعات الاستطلاع والتوقيت الذي سيجري فيه، غير مقدار التمويل الذي يؤثر بتواضعه في حجم عينة الاستطلاع وأدوات جمع البيانات وكفاءة الباحثين، التي حتماً ستكون على حساب الموضوعية في المعالجة والاستقلالية في النتائج، فلا يكون علينا إذن إلا دعمنا لمراكز عربية بالإمكانات المادية والتقنية التي تمكنها من قياس الرأي العام بالسرعة والدقة المفروضة، ثم ربط ما تصل إليه من نتائج ليس بمراكز الحصول على المعلومات فحسب، بل وبصانعي القرار أنفسهم، التي لا يُشترط فيها قطعاً الأخذ بالأطر النظرية الغربية أو محاولة محاكاة النموذج الغربي في نقل خبراته الخاصة بمفهوم الرأي العام لديه أو أساليب قياسه، وذلك حتى لا نقع في الحكم على تجربتنا استناداً إلى معايير تقوم على حضارة غربية دخيلة ومتمركزة حول ذاتها، أضف، أن ظروفنا الاقتصادية والتاريخية والحضارية لا تتسق منطقياً مع الأوضاع المجتمعية الغربية.
وأخيراً، يجب التمييز بين الاستطلاعات السياسية بأبعادها العميقة ومسوح التسويق العادية أو تلك التي تخص الإعلانات والعلاقات العامة، فالتفريق بينها معناه مراعاة الفروق الثقافية عند القياس والتحرك وفق هذه المعرفة.
الكاتب: ثريا الشهري
تاريخ النشر: 19 مايو 2004
الرابط الأصلي للمقال:

http://archive.aawsat.com/details.asp?issueno=9165&article=234651#.V3DBuvl97IU

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *