استطلاعات الرأي العام – أداة توجيه أم انعكاس للواقع؟ – ناصر عبدالحميد – ملفات التحرير

إستطلاعات الرأي والانتخابات

ترتبط استطلاعات الرأى العام ارتباطا وثيقا بالانتخابات، بحكم الرغبة العارمة لدى الجميع لمحاولة استشراف نتائج الانتخابات لما لها من أهمية كبرى فى تحديد مستقبل العملية السياسية، فضلا عن تأثيرها على مصالح النخب السياسية والاقتصادية. لذا كان من الطبيعى أن ترتبط نشأة وتطور صناعة استطلاعات الرأى العام بانتخابات الرئاسة الأمريكية منذ نحو قرن من الزمان، إذ يشار إلى أن أول استطلاع للرأى العام قد تم إجراؤه عام 1824 فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وانتشرت بعد ذلك الاستطلاعات، رغم أنها كانت محلية، إلى عام 1916 عندما أجرى استطلاع للرأى على نطاق الولايات المتحدة الأمريكية فى انتخابات الرئاسة آنذاك، تلاه استطلاعات أعوام 1920، 1924، 1929، 1932. وفى عام 19355 أسس جورج جالوب، الاحصائى الأمريكى الأشهر، المعهد الأمريكى للرأى العام، واستخدم طريقة العينة لأول مرة لتمثيل المجتمع الأمريكى فى انتخابات الرئاسة.

عبر الوقت اكتسبت استطلاعات الرأى أهمية متزايدة فى أوقات الانتخابات، لأنها تعطى مؤشرات تفيد فى تحريك المسارات الحشدية والشعبية، كما أنها تفيد فى تبصير الرأى العام بمدى هبوط وصعود مرشح عن مرشح، ومن ثم يعتبر البعض أنها ضرورة لتوجيه أداء الحملات الدعائية للمرشحين أنفسهم.

توجيه الناخبين بالاستطلاعات

الاستطلاعات قد تؤثر على نتائج الانتخابات، بيد أن هناك اختلافا فى تحديد اتجاه هذا التأثير، ويمكن التمييز فى هذا السياق بين اتجاهين: الاتجاه الأول أن استطلاعات الرأى التى يتم نشرها تسهم فى دفع الناخبين الذين لم يقرروا بعد إلى الاتجاه لانتخاب الشخص أو الحزب المتصدر نتائج الاستطلاعات، بعبارة أخرى فإن المرشح الذى تظهره استطلاعات الرأى متمتعا بالشعبية ومتقدما على منافسيه‏،‏ يصبح فى مقدوره اكتساب المزيد من التقدم على أساس ما يسمى بالتأثير “الإنجاحى” لاستطلاعات الرأى، والعكس يحدث مع المرشح، الذى لا يحرز فى الاستطلاع سوى القليل من الأصوات‏.‏ ويشير الخبراء إلى أن انتخابات الرئاسة الأمريكية تضرب أبرز الأمثلة على ذلك، إذ تشير الدراسات إلى أن نسبة تتراوح بين ‏30- 40%‏ من الناخبين الأمريكيين يكونون متذبذبين، ويعتمدون على استطلاعات الرأى فى الأيام السابقة على الانتخابات لحسم هذه التذبذبات، بمعنى أن الناخب المتذبذب يريد أن يذهب صوته إلى المرشح الأقرب للفوز‏، وبالتالى يصوت لصالح المرشح، الذى تؤكد الاستطلاعات حتمية فوزه.

أما الاتجاه الثانى، فيشير إلى أن إعلان نتائج استطلاعات الرأى يسهم فى دفع الناخبين إلى محاولة منع نجاح مرشح ما أو تسهيل نجاح مرشح آخر، أو حتى عدم الذهاب للانتخابات من الأساس، إما بسبب الثقة من نجاح مرشحهم أو بسبب الشعور بأن مرشحهم سيخسر فى كل الأحوال. ولقد دفع هذا التأثير المتوقع بعض الدول مثل فرنسا وكندا أن تمنع نشر نتائج استطلاعات الرأى قبل الانتخابات بيوم أو عدة أيام قد تصل إلى أسبوع.

وإذا ما سلمنا بتأثير استطلاعات الرأى على توجهات الناخبين، يصبح من غير المستغرب أن يتم استخدام هذه الاستطلاعات لتحقيق نتائج بعينها، مثلا من خلال تصميم الاستمارة، الذى قد ينطوى على أسئلة إيحائية لا تعكس الاتجاهات الحقيقية للناخب، بل توجهه فى اتجاه مرشح بعينه‏، فضلا عن أن العينة قد لا تكون ممثلة للمجتمع.

* تبدأ عملية توجيه الرأى العام حينما تكون الجهة التى تتولى تنظيم الاستطلاع ذات توجهات معينة أو خاضعة لمؤسسات بعينها ذات ارتباطات بالجهات التى من مصلحتها أن تصب نتيجة الاستطلاع فى صالحها، هذا إذا ما جنبنا حداثة هذه الجهات وافتقارها إلى الأسس اللازمة لإجراء الاستطلاعات، وكذلك انعدام رؤيتها للمحيط الذى تعمل فيه. وهذا ما يطرح عديدا من الأسئلة حول إشكالية تمويل الجهات القائمة باستطلاعات الرأى، فالأصل هو أن تقوم باستطلاعات الرأى جهات محايدة، ويتم تمويلها من بيع هذه الاستطلاعات. فلا يمكن التغاضى عن أن تمويل بعض الاستطلاعات قد يكون موجها، ومن ثم لا يمكن أن تكون نتائج الاستطلاع موثوقة إلا إذا كانت تابعة لجهات مستقلة (‏إداريا وماليا‏(‏.

من يقف خلف المراكز

* وتشير بعض الدراسات إلى أن الدور الذى يلعبه عديد من الشركات الضخمة ورؤوس الأموال العابرة للقارات فى صناعة استطلاعات الرأى، إذ تتحكم هذه القوى فى صناعات وسياسات وتريد معرفة جميع التفاصيل ولو صغيرة عن ميول الجماهير مستقبلا ومدى تقبلها لمنتج أو قبولها لشخص، وكذلك رد فعلها على سياسة أو قرار يجرى الإعداد له. القضية معقدة، ولا تخص الاستهلاك فقط، وأحيانا يكون هذا مجرد ستار لجوانب خفية تسعى جهات كلفت بالدراسات لمعرفتها، والمعرفة بداية للسيطرة.

ومن أبرز نماذج الاستخدام السياسى لاستطلاعات الرأى ما جرى فى حملة أوباما الانتخابية، فالحملة بأكملها قامت على استطلاع رأى الناخب الأمريكى، ليتم تحديد النقاط التى يضعها المرشح فى برنامجه الانتخابى، التى يلبى بها حاجات المواطنين، ثم يتابع تطور هذه المتطلبات بعد فوزه فى الانتخابات وتوليه المنصب.

وفى تونس تسببت مؤسسات استطلاع الرأى العام فى مغالطة الرأى العام، حين تحدثت عن وجود توازن سياسى بين الأحزاب السياسية التونسية، قبل انتخابات أكتوبر 2011، بل وضعت الحزب الديمقراطى التقدمى فى مقدمة نوايا التصويت قبل أن تقلب نتائج الانتخابات هذه التقارير رأسا على عقب، وتفرز تقدم حركة النهضة الإسلامية، التى فازت بانتخابات المجلس التأسيسى بفارق مريح عن منافسيها، ما سبب صدمة لدى عدد كبير من التونسيين الذين شعروا كأنهم يعيشون بمعزل عن واقعهم السياسى. خصوصا أن معظم السياسيين التونسيين والهيئات الدبلوماسية أخذت بالاعتبار هذه التقارير التى تبين فى ما بعد عدم صحتها. وفسر المحللون ذلك فى ضوء التصريحات التى أطلقها مدير مؤسسة “سيغما كونساي” للاستطلاع حسن الزرقونى، التى أكد فيها أن هذه المؤسسات تتعرض لضغوط خاصة قبل وبعد إصدار تقاريرها من قبل بعض الأطراف والجهات، وهو ما يؤكده مدير مؤسسة “سى إيتود”، حيث تتعرض مؤسسته لضغوط من قبل أطراف مجهولة تصل إلى التهديدات الشخصية، أو حتى الإغراءات المادية لمحاولة التأثير على نتائج استطلاعات الرأى، وأضاف أن وتيرة هذه التهديدات والإغراءات ترتفع باقتراب المواعيد السياسية الهامة كالانتخابات مثلا، نظرا لطبيعة الرهان وخطورته.

ويرى البعض أن ملكية مؤسسات استطلاع الرأى لجهات حكومية، تجعلها فى نهاية الأمر أداة طيعة فى يد السلطة الحاكمة، ويدللون على ذلك مثلا بالاختلاف الواضح بين نتائج استطلاعات الرأى فى فلسطين، والتقارير الغربية فى ما يتعلق بالثقل السياسى للفصائل الفلسطينية، خصوصا “فتح” و “حماس” والاختلاف بين نتائج استطلاعات الرأى ونتائج الانتخابات التشريعية التى حدثت عام 2006. وهو ما يطرح أسئلة عدة حول درجة الارتباط بين مراكز استطلاع الرأى ومراكز صنع القرار من جهة، والجهات الممولة من جهة أخرى؟

ولعل مجمل هذه العوامل هو ما دفع عديدا من الدول إلى التوجه نحو تقنين عمل مؤسسات استطلاع الرأى، بحيث تصبح أكثر شفافية فى ما يتعلق بمصادر تمويلها ورعاتها والنهج الذى تتبعه فى عملها… إلخ، ففى فرنسا تمت الموافقة بالإجماع فى 14 فبراير 2011، على قانون فرض قواعد شفافية أكثر صرامة على مؤسسات استطلاع الرأى

الكاتب: ناصر عبدالحميد

تاريخ النشر: 24 مايو 2014

الرابط الاصلي للمقال: https://tinyurl.com/hyxcgfz

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *