مصداقية استطلاعات الرأى العام – د.ماجد عثمان – المصري اليوم

قامت مراكز استطلاعات الرأى العام فى مصر، منذ عدة عقود، وكان فى مقدمتها المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، وتبعها العديد من المراكز التى نشأت فى مظلة الجامعات المصرية.

وقد تعرضت هذه المراكز فى حقب زمنية، لقيود حدت من حركتها وأثرت على إنتاجها المعرفى وعلى قدرتها على نشر نتائجها بشفافية، وهو ما أعاق نمو صناعة قياس الرأى العام وحولها إلى مهنة يوصف أصحابها بأنهم من مثيرى المتاعب وفى بعض الأحيان لا تخلو التهم الموجهة إليهم من نقص الوطنية.

ومنذ نحو ست سنوات، تأسس فى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، مركز استطلاعات الرأى العام، كان الأول من نوعه في استخدام الهاتف فى قياس الرأى العام، ليس فقط فى مصر ولكن فى المنطقة العربية، التى افتقرت لسنوات طويلة لمؤسسات تستخدم الأساليب العلمية فى قياس الرأى العام، واقتصرت قياسات الرأى العام فيها على الأجهزة الأمنية التى لا تتيح هذه القياسات -بحكم طبيعة عملها- إلا لدائرة محدودة، هذه الأجهزة عادة ما لا تتوفر لديها أدوات التحليل العلمى، الذى يمكن أن يصل إلى هذه القياسات، بقدر أكبر من الدقة، ويتناول نتائج هذه القياسات دون خجل من الإشارة إلى محدوديتها.

واستخدام الهاتف فى استطلاعات الرأى العام هو وسيلة سريعة وقليلة التكاليف، وفى المقابل لها محدوديتها لكونها لا تصل إلى الأسر التى لا تمتلك هاتفاً، مع ملاحظة أن أعداد هذه الأسر يتجه للانخفاض مع ثورة الاتصالات التى تشهدها مصر، كما لا تسمح الاستطلاعات التى تتم بواسطة الهاتف، بعكس المقابلات الشخصية، بتوجيه عدد كبير من الأسئلة، وبغض النظر عن المقارنة بين الوسيلتين والتى نعتقد أن كلتيهما مطلوبة فقد أتاح استخدام الهاتف فى قياسات الرأى العام فى مصر فرصة لإجراء عدد كبير من استطلاعات الرأى العام، تناولت مجالات متنوعة وتجاوبت مع الأحداث المطروحة على الساحة، بقدر عال من الديناميكية.

وقد قام مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بإتاحة نتائجها من خلال وسائل الإعلام ومن خلال موقعه الإلكترونى، انطلاقاً من أن المعرفة يجب ألا تكون مقصورة على النخبة، وإنما هى من حق الجميع، وأن إتاحة هذه المعرفة على نطاق واسع يمكن أن يسهم على نحو إيجابى، فى إثارة حوارات مجتمعية تستند إلى الموضوعية، وتثرى صياغة أجندة وطنية تحتاج إلى توافق مجتمعى، وأن هذا التوافق المجتمعى يمكن أن يتحول إلى مشاركة حقيقية، بدونها لن ينطلق الوطن إلى الأمام بوتيرة أسرع.

فى ضوء تجربة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار فى إجراء استطلاعات الرأى العام على مدار السنوات الست الماضية كنت مهتماً بدرجة كبيرة بدراسة كيفية استقبال الإعلام المصرى لنتائج هذه الاستطلاعات. وأعترف أن الباعث المهنى لهذا الاهتمام كان كثيراً ما يطغى على الباعث الوظيفى وأظننى كنت أبالغ فى تمضية الوقت والجهد فى التنقيب والتأمل والتمحيص فى كل ردود أفعال الإعلام المكتوب والمرئى، للتعرف على كيفية تفاعل الإعلام المصرى مع نتائج الاستطلاعات سواء كان هذا التفاعل إيجابياً أو سلبياً.

وفى ضوء هذه التجربة المثيرة للاهتمام خلصت إلى النقاط التالية:

١- إن التوجه السياسى للإعلامى، يفرض نفسه بقوة عند التعامل مع نتائج استطلاعات الرأى العام، ويكون ذلك على حساب الموضوعية وعلى حساب المهنية، وأظن أيضاً على حساب القارئ أو المشاهد، فإذا كانت نتائج استطلاع الرأى العام تشير إلى قصور يمكن أن يوجه إلى الحكومة فتعرض النتائج على أنها اعتراف من الحكومة بالفشل.

وإذا كانت النتائج تشير إلى إيجابية يمكن أن تحسب لصالح الحكومة فتعرض النتائج فى سياق يشكك فى مصداقية النتائج ويتهم المركز – تلميحاً أو تصريحاً – بأنه يجمل وجه الحكومة، وعادة ما يصاحب ذلك دعوة إلى ضرورة وجود مراكز استطلاع رأى مستقلة وهو ما أراه شخصياً خطوة فى الاتجاه الصحيح.

٢- الثقة فى الاستطلاع لا تعتمد على رصانة المنهجية بقدر ما تعتمد على اتجاه النتائج. فإذا كانت النتائج تتفق مع التوقعات المسبقة يتم منحها صك الثقة عرضها على القارئ أو المشاهد على نحو يبارك هذه النتائج، وإذا جاءت النتائج على نحو لا يتوافق مع التوقعات يوصم الاستطلاع بالتحيز، وفى بعض الأحيان يصنف على أنه غير علمى، لمجرد أن النتائج جاءت غير متوافقة مع التوقعات.

٣- الأصل فى الأمور أن يتم منح الثقة أو سحبها من الاستطلاع، بناء على اتباع الاعتبارات المنهجية، مثل تصميم العينة – حجم العينة – أسلوب اختيار مفردات العينة – صياغة الأسئلة – ونسب الاستجابة. فإذا اطمأننا إلى استيفاء الاستطلاعات لهذه الشروط يتم التعامل مع النتائج باعتبارها جديرة بالثقة حتى وإن كانت لا تتفق مع التوقعات.

وهنا نشير إلى أنه إذا قررنا عدم قبول أى نتائج صادرة عن بحوث علمية لأنها لا تتفق مع التوقعات أو الانطباعات لما كان هناك حاجة أصلاً لإجراء أى بحوث أو دراسات أو تجارب علمية، ولما اعترفنا بكروية الأرض أو دورانها حول الشمس. وهذا التعامل الانتقائى مع نتائج استطلاعات الرأى العام، يشير إلى حاجة ماسة لأن نحكم العقلية العلمية فى التعامل مع الأمور وأن نرسى القاعدة بأن الجهل بالشىء لا ينفى وجوده.

٤- هناك فرق بين الحقائق وإدراك الناس لهذه الحقائق، وفى بعض الأحيان يكون هذا الفرق شاسعاً. واستطلاعات الرأى العام تقيس إدراك الناس للحقائق ولا تقيس الحقائق نفسها. وعلى سبيل المثال، فإن الاستطلاعات التى تتناول الفساد تقيس إدراك الناس للفساد من خلال تجاربها الشخصية أو من خلال ما نما إلى علمها، من مصادر أخرى، قد تخضع للتهويل أو للتهوين.

أما حجم الفساد الفعلى فقياسه يتم من خلال حجم الأموال الموجهة للرشاوى أو من خلال مقدار ممارسة غسيل الأموال أو من خلال قضايا الأموال العامة التى صدر فيها حكم نهائى. وأحياناً يكون إدراك الواقع أسوأ من الواقع نفسه وهو ما يستوجب وجود قياسات للحقائق وأيضاً قياسات لمدركات هذه الحقائق. وبالنسبة للسياسيين فعليهم أن يتعاملون مع مدركات الجماهير وأن يهتموا بإدراك المواطن للحقائق ربما أكثر من الحقائق نفسها.

٥- إن وجود فجوة بين النتائج الصادرة عن استطلاعات الرأى العام وتوقعات المتلقى لهذه النتائج، لا يجب أن يترتب عليها رفض عصبى للنتائج، ولا يجب أن تختزل فى تشكيك متسرع وغير مبرر فى مصداقية هذه النتائج، وإنما يجب أن نتجاوز ذلك إلى محاولة لفهم وتفسير وتأويل الفجوة بين النتائج والتوقعات. ولا يجب أن ينظر إلى استطلاعات الرأى العام على أنها المصدر الوحيد للحقيقة المجردة ولكن باعتبارها إحدى الأدوات التى لا تتنافى وإنما تتكامل مع أدوات أخرى للتحليل العلمى.

وأنها نقطة فى متصل يشمل أساليب كمية أخرى لقياس الرأى العام مثل المقابلات الشخصية لعينة احتمالية ممثلة للمجتمع، ويشمل أيضاً أساليب كيفية، مثل المجموعات البؤرية أو المقابلات المتعمقة.

وهذه الأخيرة وإن كانت لا تعتبر ممثلة للمجتمع من الناحية الإحصائية، لكنها تضيف إلى فهم الأسباب والملابسات والتفاعلات التى تكتنف السلوك الإنسانى. هذه الأدوات المتكاملة تحتاج إلى رؤى نقدية ومحاولات للفهم والتفسير والتأويل تحتمل الاختلاف بين العلماء والمفكرين. وقد يبدو حديثى مفرطاً فى النظرية ويؤدى إلى حالة من الغموض تضفى على الحقائق غلالة ضبابية تخفى أكثر مما تكشف. ولكننا فى النهاية أمام تفسير سلوك إنسانى معقد لا يمكن فهمه بالكامل من خلال أداة واحدة.

٦ – ومع ذلك فإننى أعتقد أن استطلاعات الرأى العام مع محدوديتها تكشف عن مساحة مهمة من الحقيقة وتفيد فى أحيان كثيرة فى الإفصاح عن واقع كان من قبل مكتماً، فنتائج استطلاعات الرأى العام تعتبر مرآة صادقة فى مقارنة تطور ظاهرة عبر الزمن وفى قياس التفاوتات بين مستوى الظاهرة حسب المناطق الجغرافية أو الشرائح الاجتماعية أو الفئات العمرية،

وعلى سبيل المثال، قد يرى البعض أن الإجابة عن سؤال حول مدى الرضا عن أداء الحكومة يعتريه عوار لخوف أو حرج فى الإجابة عن السؤال ولكن تظل المقارنات الزمنية لنسبة الرضا عن أداء الحكومة لها دلالتها وتظل التفاوتات حسب العمر والنوع والحالة العملية والحالة التعليمية ومحل الإقامة تضيف الكثير إلى فهم العلاقة بين المواطن والحكومة.

٧ – بعض كتبة المقالات يتعاملون مع نتائج الاستطلاعات بسخرية ولا يجدون فيها سوى مادة للفكاهة ومع ما تضيفه كتاباتهم من بهجة على القارئ تخفف من حالة الاكتئاب الذى يصيبه عند قراءة مواد صحفية أخرى إلا أن شهوة الكوميديان التى تتملك البعض تطغى على حكمة المفكر التى يتوقعها القارئ من كتبة الأعمدة. وإيجاد قدر أكبر من التوازن بين الشهوة والحكمة قد يكون مفيداً لرسم صورة ذهنية إيجابية لدى القارئ عن استطلاعات الرأى العام بوجه عام ولا أقصد تلك الصادرة عن جهة معينة.

٨ – إن قيام مركز حكومى بإجراء استطلاعات الرأى العام، يفرض عليه فى ظل جو التشكك الذى يسود المجتمع المصرى مزيداً من الجهد لتوضيح الحقائق ومزيداً من الصبر على الاتهامات الجزافية ومزيداً من التجويد فى المنهجيات المستخدمة ليثبت أن التبعية الحكومية لا تتعارض بالضرورة مع المصداقية والشفافية، وقد حرص مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار على تشكيل مجلس أمناء مكون من شخصيات عامة غير حكومية وغير حزبية يشرف على توجيه ومراقبة مركز استطلاعات الرأى العام ويرأس مجلس الأمناء العالم الجليل الدكتور أحمد كمال أبوالمجد،

ويضم المجلس عدداً من العلماء والخبراء المرموقين هم أمانى قنديل وحسين عبدالعزيز وراجية قنديل وسحر الطويلة وسيد ياسين وقدرى حفنى ونادية مكارى ومكرم محمد أحمد وهبة حندوسة، وهذا النموذج هو محاولة أسلوب جديد يقوم فيه المجتمع المدنى بإدارة ومراقبة أداء جهاز حكومى وقد يكون خطوة لتعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات الحكومية.

٩ – الحديث عن الحاجة إلى مراكز استطلاع رأى عام مستقلة مطلب يجب أن يحظى بالمساندة ولكن تعريف الاستقلالية وشروط تحقيقها يجب أن ينال قسطاً وافراً من النقاش حتى لا يتحول المطلب إلى سراب لا يتحقق إلا فى حالة اللاوعى. وهنا يجب أن نطرح البدائل مع ملاحظة أن قضية الاستقلالية لا تنفصل عن قضية تمويل مراكز استطلاعات الرأى العام.

والبديل الأول أن يؤسس رجل أو رجال أعمال مركزاً لاستطلاع الرأى العام وهو ما يضمن التمويل دون أن يضمن بالضرورة استقلالية الموضوعات أو النتائج عن أجندة الممول. والبديل الثانى أن تؤسس الجامعات مثل هذه المراكز وهذا حادث فعلاً فى بعض جامعاتنا الحكومية ولكن المراكز تعانى من نقص التمويل، أى أن البديل الأول تمويل بلا استقلالية والثانى استقلالية بلا تمويل.

١٠- يدعونا ذلك للتفكير فى بدائل أخرى لا تستبعد الصحف والمحطات التليفزيونية، لاسيما مع ظهور صحف ومحطات تليفزيونية اكتسبت مصداقية الرأى العام. ولا أدعى أن مجرد قيام المؤسسات الإعلامية بإنشاء مراكز استطلاعات الرأى العام هو المفتاح السحرى لتحقيق الحسنيين: الاستقلالية المالية والاستقلالية الفكرية.

ولكن حجر الزاوية يكمن فى الفصل بين الملكية والإدارة وفى وجود قواعد حاكمة لعمل هذه المراكز وتطبيق الآليات التى تضمن قدراً عالياً من المهنية فى العمل وتحقق الرقابة الذاتية مثل وجود مجلس أمناء ولجان استشارية.

فى النهاية، استطلاعات الرأى العام هى أحد أركان الإصلاح السياسى فاستطلاعات الرأى العام تسهم فى تحقيق مبدأ المساءلة من خلال الاهتمام برأى المواطن فى أداء أجهزة الدولة وكفاءة تقديم الخدمات،

وتسهم فى تحقيق مبدأ المشاركة من خلال التعرف على رأى المواطن فى التعامل مع المشكلات التى تواجه المجتمع بحيث يصبح جزءًا من الحل وليس جزءًا من المشكلة، وتسهم فى تحقيق التوافق المجتمعى من خلال خلق الحوار حول القضايا المطروحة والسياسات المطبقة والسياسات التى تعتزم الحكومات تطبيقها.

ولا شك أن كل الجهود التى تتم لتنمية صناعة قياس الرأى العام تصب فى المصلحة العامة بما فى ذلك إنشاء مراكز وطنية جديدة لاستطلاع الرأى العام تتسم بالاستقلالية وتلتزم بالقواعد المهنية والاعتبارات الأخلاقية.

الكاتب: د.ماجد عثمان
تاريخ النشر: 4 ابريل 2009
الرابط الاصلي للمقال: https://tinyurl.com/zghf8w5

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *